زيارة بايدن لأنغولا- دوافع أميركية في توقيت حرج وأهداف استراتيجية

المؤلف: د. بدر حسن شافعي10.09.2025
زيارة بايدن لأنغولا- دوافع أميركية في توقيت حرج وأهداف استراتيجية

في شهر يوليو المنصرم، تساءل كاتب هذه السطور في مقال نشر على الجزيرة نت عن الأسباب الكامنة وراء عدم قيام الرئيس الأميركي جو بايدن بزيارة القارة الأفريقية منذ توليه منصبه في البيت الأبيض قبل ما يقارب الأربعة أعوام، على الرغم من إعلانه خلال القمة الأميركية الأفريقية الأخيرة التي انعقدت في شهر ديسمبر من عام 2022 عن نيته المضي قدمًا في زيارة القارة، دون تحديد موعد زمني أو وجهة محددة لتلك الزيارة.

وقد استند هذا التساؤل آنذاك إلى التراجع الملحوظ في النفوذ الأميركي في القارة السمراء، وذلك لصالح النفوذ الروسي على وجه الخصوص، وخاصة في منطقة الساحل الأفريقي، ولا سيما في النيجر التي طالبت القوات الأميركية بالانسحاب من أراضيها، وهو ما تم بالفعل قبل أيام معدودة، بالإضافة إلى تشاد التي أبدت رغبتها في مراجعة الاتفاقيات العسكرية المبرمة مع واشنطن، فضلًا عن استمرارها في البحث عن قواعد عسكرية بديلة، مثل ساحل العاج، وكذلك سعيها لإيجاد مقر أفريقي للقيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا "الأفريكوم" بدلًا من مقرها الحالي المتواجد في مدينة شتوتغارت الألمانية، هذا بالإضافة إلى الانتقادات الأفريقية الموجهة للدعم الأميركي لإسرائيل في حربها ضد قطاع غزة.

وفي تطور لاحق، أفادت مصادر أميركية مطلعة بأن الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي أعلن انسحابه من السباق الرئاسي، يعتزم القيام بزيارة إلى أنغولا في غضون الأسابيع القليلة المقبلة، وذلك تنفيذًا لوعوده السابقة بأن يكون أول رئيس أميركي يزور منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى منذ زيارة سلفه باراك أوباما لتلك المنطقة.

ورجحت المصادر أن تتم الزيارة بعد اختتام اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي ستعقد هذا الشهر، وقبل حلول موعد انتخابات الرئاسة الأميركية المقرر إجراؤها في الخامس من شهر نوفمبر القادم.

وتزامنت هذه التصريحات مع تصريحات أخرى أدلت بها السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، والتي أكدت فيها على أن واشنطن تدعم بقوة فكرة إنشاء مقعدين دائمين في مجلس الأمن الدولي للدول الأفريقية، وهو نفس الأمر الذي سبق أن أكده الرئيس بايدن خلال القمة الأميركية الأفريقية، حيث حرص خلالها على التشديد على اهتمامه البالغ بالقارة السمراء من خلال عدة أمور، من بينها ضرورة تخصيص مقعد دائم لأفريقيا في مجلس الأمن في إطار خطة إصلاح الأمم المتحدة.

وهنا يثور التساؤل من جديد: لماذا أعلن الرئيس بايدن عن نيته زيارة القارة الأفريقية في هذا التوقيت المتأخر بالذات؟ ولماذا اختار أن يبدأ جولته من أنغولا الواقعة في جنوب القارة، وليس من منطقة الساحل أو غرب أفريقيا التي تشهد معارضة أفريقية واضحة لسياسات واشنطن؟

أسباب الاهتمام الأميركي بأفريقيا

يمكن الجزم بوجود جملة من الأهداف التي يسعى الرئيس بايدن لتحقيقها من خلال زيارته المرتقبة لأفريقيا، ويمكن تلخيص هذه الأهداف على النحو التالي:

  • أولًا: السعي الحثيث لتحسين الصورة الذهنية لواشنطن في القارة الأفريقية، وذلك بعد اتهامها المتكرر بالتدخل السافر في الشؤون الداخلية للدول الأفريقية تحت ستار الديمقراطية، وهو ما يتعارض مع النهج الذي تتبعه كل من الصين وروسيا.

وقد أفضى ذلك إلى مطالبة قادة الانقلاب العسكري في النيجر بسحب القوات الأميركية من البلاد، ومطالبة تشاد بمراجعة الاتفاق الأمني المبرم مع واشنطن، هذا فضلًا عن اتهام الإدارة الأميركية بالتعالي على الدول الأفريقية خلال فترة حكم الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي لم يكتفِ بعدم زيارة أي دولة أفريقية، بل وصل به الأمر إلى وصف هذه الدول بـ"الحثالة"، متخذًا شعار "أميركا أولًا" كمرتكز أساسي لسياسته الخارجية.

وبالتالي، فقد أدار ترامب ظهره لدول القارة الأفريقية، تاركًا المجال مفتوحًا أمام كل من روسيا والصين للتغلغل فيها بصورة ملحوظة، وملء الفراغ الذي تركه سواء عن طريق وسائل الدبلوماسية الناعمة، كالقروض أو المنح الصينية، أو عن طريق القوة الصلبة، كالتدخل الروسي من خلال مجموعة فاغنر العسكرية.

  • ثانيًا: محاولة جادة لكسب التأييد الأفريقي في المحافل الدولية، وخاصة بعد اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، والانقسام الأفريقي بشأن الموقف من هذه الحرب، وذلك بعد أن تبين أن الولايات المتحدة لا تسعى إلا لتحقيق مصالحها الذاتية، في مقابل العرض الروسي بتصدير القمح مجانًا إلى الدول الأفريقية، وهو الأمر الذي انعكس سلبًا على الموقف الأفريقي في الأمم المتحدة، حيث امتنعت ما يقارب نصف الدول الأفريقية عن التصويت، وكان من بينها تنزانيا التي زارتها نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس في شهر مارس من عام 2023.
  • ثالثًا: بذل مساعٍ حثيثة لحشد الدعم من الدول الأفريقية للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وذلك بعد الرفض الأفريقي الواسع لهذه الحرب، بل ودعم أغلب دول القارة للحقوق الفلسطينية المشروعة في إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من يونيو عام 1967.
  • رابعًا: السعي الحثيث لحصد المزيد من أصوات الناخبين الأميركيين من أصول أفريقية في انتخابات الرئاسة الأميركية القادمة لصالح كامالا هاريس، وذلك بعد أن أظهرت استطلاعات الرأي، قبل إعلان بايدن انسحابه من السباق الرئاسي، تراجعًا ملحوظًا في تأييد هذه الفئة له.

فوفقًا لهذه الاستطلاعات التي أجريت في شهر مايو الماضي، وعلى الرغم من حصوله على أغلبية أصوات هؤلاء الناخبين، إلا أنه كان سيخسر أصوات الشباب تحديدًا في بعض الولايات الحاسمة، ومن بينها ولاية جورجيا، وحتى ولاية ويسكونسن. وفي شهر يوليو الماضي، بلغت نسبة تأييد السود له 64% مقابل 92% في انتخابات عام 2020، وهو ما دفع البيت الأبيض في شهر مايو الماضي إلى تخصيص مبلغ 16 مليار دولار لحوالي 100 جامعة تاريخية للسود في البلاد.

وربما كان هذا هو السبب وراء ارتفاع أسهم كامالا هاريس التي حلت بدلًا منه في سباق الرئاسة. فوفقًا لمسح أجراه مركز "بيو" للأبحاث بين البالغين في الولايات المتحدة في شهر أغسطس الماضي، أي قبل انطلاق المؤتمر الوطني الديمقراطي، فإن ثلاثة أرباع الناخبين السود (77٪) سيصوتون لصالح هاريس، ومن المعروف أن الأميركيين السود يشكلون عادة العمود الفقري للحزب الديمقراطي.

  • خامسًا: تنفيذ الإستراتيجية الأميركية الجديدة تجاه القارة الأفريقية، والتي تم الإعلان عنها قبل عامين، وتركز على عدة نقاط جوهرية، من بينها ضرورة مواجهة الأنشطة الصينية "الضارة" في أفريقيا، وكذلك المعلومات "المضللة" الروسية، التي دفعت العديد من دول القارة لتصديق الرواية الروسية في تبرير حربها على أوكرانيا، واتخاذ بعض هذه الدول موقف الحياد في الأمم المتحدة عند طرح القضية للنقاش.

هذه المواجهة الأميركية لكل من روسيا والصين هي التي دفعت واشنطن قبل سنوات لإنشاء القيادة العسكرية الأميركية المعنية بالقارة الأفريقية "الأفريكوم"، وذلك بهدف التصدي للتغلغل العسكري الروسي تحديدًا من خلال مجموعة فاغنر، والفيلق الروسي الذي حل محلها.

كما سعت واشنطن من ناحية أخرى لزيادة استثماراتها في مشاريع البنية التحتية على غرار الاستثمارات الصينية الضخمة، وذلك على أمل تعزيز شعبيتها لدى الشعوب الأفريقية من خلال تقديم خدمات ملموسة لها بدلًا من السياسات التقليدية السابقة القائمة على تقديم مساعدات أو قروض للحكومات، والتي قد لا تجد طريقها إلى هذه الشعوب بسبب تفشي الفساد على نطاق واسع.

وربما كان هذا هو الدافع وراء إعلانها عن مبادرة الشراكة العالمية في مجال الاستثمار والبنية التحتية: "thePartnership for Global Infrastructure and Investment"، وقيامها منذ عام 2021 بإبرام أكثر من 800 صفقة تجارية واستثمارية مع 47 دولة أفريقية من إجمالي 54 دولة، بقيمة إجمالية تقدر بأكثر من 18 مليار دولار.

كما قامت مؤخرًا بعقد شراكة لبناء توسعة في ميناء برايا عاصمة الرأس الأخضر "كاب فيردي" بمبلغ 150 مليون دولار. وفي شهر ديسمبر الماضي، أعلنت واشنطن عن 550 اتفاقية تجارية واستثمارية جديدة مع الدول الأفريقية، بزيادة قدرها 67% عن الأعوام الماضية.

لماذا أنغولا؟

وإذا كانت هذه هي الأسباب العامة للزيارة المرتقبة، فإن السؤال الثاني الذي يطرح نفسه بإلحاح: لماذا أنغولا تحديدًا؟ وما هو سر الاهتمام الأميركي المتزايد بها؟

وهنا يجب الإشارة إلى أن أنغولا، التي كانت تخضع للاستعمار البرتغالي، كانت إحدى المحطات الهامة في الزيارة الأولى التي قام بها وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن للقارة الأفريقية في شهر أكتوبر الماضي، والذي زار أيضًا كلًا من كينيا وجيبوتي، وتعد هذه الزيارة الأولى من نوعها لوزير دفاع أميركي لأنغولا منذ استقلالها عام 1975.

كما كانت أنغولا الدولة الوحيدة الواقعة في جنوب القارة الأفريقية التي زارها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في جولته الأخيرة للقارة في أوائل هذا العام، والتي شملت ثلاث دول من غرب أفريقيا، وهي: الرأس الأخضر، ونيجيريا، وساحل العاج. وبالتالي، فإن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: ما هو سبب هذا التركيز الأميركي المكثف على أنغولا؟

هنا يجب الإشارة إلى عدة اعتبارات أميركية خاصة بأنغولا، من أبرزها:

  • موقعها الإستراتيجي الهام على المحيط الأطلسي في الجنوب الأفريقي. فضلًا عن غناها الفاحش بالثروات المعدنية، وخاصة في إقليم كابيندا الذي لا يزال يشهد بعض التوترات الأمنية. فاحتياطاتها النفطية تقدر بحوالي 9.1 مليارات برميل، بالإضافة إلى 11 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، علاوة على معادن الألماس والذهب، والموارد النادرة الأخرى مثل الكوبالت والكولتان، مما يجعلها محطة رئيسية للصادرات التكنولوجية الأميركية المتجهة إلى دول الجنوب والشرق الأوسط الأفريقي، أو محطة للواردات الخاصة بالموارد الطبيعية الثرية المتواجدة في هذه المنطقة، وخاصة الكوبالت المستخرج من الكونغو الديمقراطية، أو النحاس المستخرج من زامبيا، أو الكولتان وغيرها، والتي تعد أساس الصناعات التكنولوجية المتقدمة بشقيها المدني والعسكري.
  • رغبة جامحة لدى إدارة بايدن في إبعاد أنغولا، ذات التوجهات الماركسية السابقة، عن أي نفوذ روسي. فأنغولا، التي تعتبر ثالث أكبر منتج للنفط في أفريقيا، تمتعت بعلاقات وثيقة مع الاتحاد السوفياتي السابق، حيث دعمت موسكو الرئيس السابق خوسيه إدواردو دوس سانتوس خلال الحرب الأهلية التي شهدتها البلاد بين عامي 1975 و2002، في مواجهة حركة يونيتا المعارضة المدعومة من الولايات المتحدة بقيادة جوناس سافيمبي. كما كانت موسكو سباقة في زيارة أنغولا، حيث زارها وزير خارجيتها سيرغي لافروف خلال جولته الثانية في القارة الأفريقية في أوائل عام 2023، أي قبل زيارة أوستن لها بتسعة أشهر تقريبًا، وقبل زيارة بلينكن بحوالي عام.
  • الحرص الشديد على مواجهة النفوذ الصيني المتنامي من خلال إخراج أنغولا من مشروع الصين الإستراتيجي الضخم "الحزام والطريق". تعد أنغولا، نظرًا لموقعها الإستراتيجي البحري على المحيط الأطلسي، وكذلك موقعها البري المتميز، إحدى الدول المحورية الرئيسية في هذا المشروع، وذلك لكونها ممرًا حيويًا للبضائع الصينية عبر السكك الحديدية التي أنشأتها الصين نحو مختلف أنحاء القارة الأفريقية.

كما تعد طريقًا هامًا للموارد النادرة من حزام الكوبالت والكولتان المتواجد في كل من زامبيا والكونغو الديمقراطية. وتتمتع أنغولا بعلاقات وطيدة مع بكين، حيث تعتبر من أكبر خمسة موردين للنفط إلى الصين، كما تعتبر أكبر شريك تجاري لها في القارة السمراء بحجم تجارة تجاوز 120 مليار دولار منذ عام 2010. وتلعب الشركات الصينية، التي يبلغ عددها حوالي 400 شركة، دورًا هامًا في مجالات عدة في العاصمة الأنغولية لواندا، ولا سيما في مجال البنية التحتية، حيث غالبًا ما يتم تبادل الاستثمار الصيني في هذا القطاع مقابل النفط الأنغولي.

لذلك، ليس من المستغرب أن تسعى واشنطن جاهدة لإيجاد موطئ قدم لها في لواندا من خلال استثمارات تقدر بنحو 250 مليون دولار في مشروع ممر لوبيتو الأطلسي للسكك الحديدية، الذي يربط أنغولا بمناجم الكوبالت في الكونغو الديمقراطية، وحزام النحاس في زامبيا.

بل سعت واشنطن مؤخرًا في شهر أغسطس الماضي لتمديد هذا الخط إلى المحيط الهندي عبر تنزانيا. ولعل هذا يفسر الأسباب الكامنة وراء قيام كامالا هاريس في زيارتها الأولى للقارة الأفريقية في شهر مارس من عام 2023 بزيارة كل من تنزانيا وزامبيا في شرق وجنوب القارة، بالإضافة إلى غانا في غرب القارة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة